فصل: الدليل الخامس: الاستحسان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.مسالك العلة:

المراد بمسالك العلة: الطرق التي يتوصل بها إلى معرفتها، وأشهر هذه المسالك ثلاثة:
أولا: النص: فإذا دل نص القرآن أو السنة على أن علة الحكم هي هذا الوصل كان هذا الوصف علة بالنص ويسمى العلة المنصوص عليها وكان القياس بناء عليه هو في الحقيقة تطبيق للنص. ودلالة النص على أن الوصف علة قد تكون صراحة وقد تكون إيماء أي إشارة وتلويحا لا تصريحا.
فالدلالة صراحة هي: دلالة لفظ في النص على العلية بوضعه اللغوي مثل ما إذا ورد في النص لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص، لا يحتمل غير الدلالة على العلية، فدلالة النص على علية الوصف صريحة قطعية كقوله تعالى في تعليله بعثه الرسل: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله في إيجاب أخذ خمس الفيء للفقراء والمساكين: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} [الحشر: 7]، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة، فكلوا وادخروا».
وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص يحتمل الدلالة على غير العلية، فدلالة النص على عليه الوصف صريحة ظنية، مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقول الرسول في طهارة سؤر الهرة: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، وإنما كانت دلالة النص على العلية ظنية في هذا الأمثلة لأن الألفاظ الدالة عليها فيها، وهي: اللام، والباء، والفاء، وإن كما تستعمل في التعليل في غيره، وإن كان التعليل هو الظاهر من معانيها في هذه النصوص.
وأما دلالة النص على العلية إيماء أي إشارة وتنبيها، فهي مثل الدلالة المستفادة من ترتيب الحكم من الوصف واقترانه به، بحيث يتبادر من هذا الاقتران فهم عليه الوصف للحكم وإلا لم يكن للاقتران وجه، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»، وقوله: «لا يرث القاتل»، وقوله: «للراجل سهم وللفارس سهمان»، وقوله للأعرابي- لما قال له: واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا: «كفِّر» وكون الدلالة صراحة أو إيماء، قطعية أو ظنية، مدارها على وضع اللغة وسياق النص.
ثانيا: الإجماع: فإذا اتفق المجتهدون في عصر من العصور على علية وصف لكم شرعي ثبتت عليه هذا الوصف للحكم بالإجماع، ومثال هذا إجماعهم على أن علة الولاية المالية على الصغيرة الصغر، وفي عدّ هذا مسلكاً نظر، لأن نفاة القياس لا يقيسون ولا يعللون فكيف ينعقد بدونهم إجماع.
ثالثا: السبر والتقسيم: السبر معناه الاختبار، ومنه المسبار. والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة في الأصل، وترديد العلة بينها بأن يقال العلة إما هذا الوصف أو هذا الوصف. فإذا ورد نص بحكم شرعي في واقعة ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، سلك المجتهد للتوصل إلى معرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم: بأن يصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، وتصلح لأن تكون العلة وصفا منها، ويختبرها وصفا وصفاً على ضوء الشروط الواجب توافرها في العلة، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به، بواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف التي لا تصلح أن تكون علة، ويستبقي ما يصلح أن يكون علة، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأن هذا الوصف علة.
مثلا: ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة الشعير بالشعير:
ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، فالمجتهد يسلك لمعرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم بأن يقول: علة هذا الحكم إما كون الشعير مما يضبط قدره لأنه يضبط بالكيل، وإما كونه طعاما، وإما كونه مما يقتات به ويدخر؛ لكن كون طعاما لا يصلح علة، لأن التحريم ثابت في الذهب بالذهب وليس الذهب طعاما، وكونه قوتا لا يصلح أيضا لأن التحريم ثابت في الملح بالملح، وليس قوتا، فيتعين أن تكون العلة كونه مقدرا. وبناء على هذا؛ يقاس على ما ورد في النص كل المقدرات بالكيل أو الوزن، ففي مبادلتها بجنسها يحرم ربا الفضل والنسيئة.
وكذا ورد النص بتزويج الأب بنته البكر الصغيرة، ولم يدل نص ولا إجماع على علة ثبوت هذه الولاية، فالمجتهد يردد العلية بين كوناه بكرا وكونها صغيرة، ويستبعد البكارة لأن الشارع ما اعتبرها للتعليل بنوع من أنواع الاعتبار، ويستبقى الصغر لأن الشارع اعتبره علة للولاية على المال، وهي والولاية على التزويج من جنس واحد، فيحكم بأن العلة الصغر ويقيس على البكر الصغيرة الثيب الصغيرة بجامع الصغر.
وكذا ورد النص بتحريم شرب الخمر ولم يدل نص على علة الحكم، فالمجتهد يردد العلية بين كونه من العنب أو كونه سائلا أو كونه مسكرا، ويستبعد الوصف الأول لأنه قاصر، والثاني لأنه طردي غير مناسب، ويستبقي الثالث فيحكم بأنه علة.
وخلاصة هذا المسلك: أن المجتهد عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علة منها، ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة، بحيث لا يستبقي إلا وصفا ظاهرا منضبطا متعديا مناسبا معتبرا بنوع من أنواع الاعتبار. وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين، لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى تفاوت عقول المجتهدين، لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى المناسب وصفا آخر. فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس. والحنفية رأوا المناسب في تعليل ثبوت الولاية على البكر الصغيرة الصغر، والشافعية رأوه البكارة.
وبعض علماء الأصول عد من مسالك العلة تنقيح المناط، والمراد بتنقيح المناط، هو تهذيب ما نيط به الحكم وبني عليه وهو علته. والحق أن تنقيح المناطق إنما يكون حيث دل النص على العلية من غير تعيين وصف بعينه علة، فهو ليس مسلكا للتواصل به إلى تعليل الحكم، لأن تعليل الحكم مستفاد من النص، وإنما هو مسلك لتهذيب وتخليص علة الحكم مما اقترن بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية.
ومثال هذا: ما ورد في السنة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: هلكت، فقال له الرسول: «ما صنعت؟» فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا، فقال له الرسول: «كفِّر...» الحديث، فهذا النص دل بالإيماء على أن علة إيجاب التكفير على الأعرابي ما وقع منه، ولكن هذا الذي وقع منه فيه ما لا مدخل له في العلية لإيجاب التكفير مثل كونه أعرابيا، وكونه واقع خصوص زوجته، وكونه واقع في نهار رمضان من تلك السنة بعينها.
فالمجتهد يستبعد هذه الأوصاف لأنها لا مدخل لها في العلية، ويستخلص علة الوقاع عمدا في نهار رمضان، وعلى هذا تجب الكفارة على من أفطر عامدا في نهار رمضان بالجماع خاصة، وهذا مذهب الشافعي. وأما الحنفية فقالوا: إن مثل الجماع كل مفطر، وهذه المماثلة تفهم بالتبادر فتجب الكفارة على كل من أفطر عمدا في نهار رمضان بجماع أو بأكل أو بشرب أو غيرها فيكون المناط لإيجاب الكفارة عندهم بعد تهذيبه المفسد للصوم عمدا، فتهذيب العلة مما اقترن بها ومما لا مدخل له في العلية وهو تنقيح المناط.
ومن هذا يتبين أن تنقيح المناط غير السبر والتقسيم؛ لأن تنقيح المناط يكون حيث دل نص على مناط الحكم، ولكنه غير مهذب ولا خالص من اقتران ما لا دخل له في العلية به.
وأما السبر والتقسيم فيكونان حيث لا يجود نص أصلا على مناط الحكم، ويراد التوصل بهما إلى معرفة العلة لا إلى تهذيبها من غيرها.
وأما النظر في استخراج العلة غير المنصوص عليها، ولا المجمع عليها بواسطة السبر والتقسيم، أو بأي مسلك من مسالك العلة فيسمى تخريج المناط. فهو استنباط علة لحكم شرعي ورد به النص ولم يرد نص بعلته ولم ينعقد إجماع على علته.
وأما تحقيق المناط فهو النظر في تحقق العلة التي تثبت بالنص أو بالإجماع أو بأي مسلك في جزئية أو واقعة غير التي ورد فيها النص، كما إذا ورد النص بأن علة اعتزال النساء في المحيط هي الأذى فينظر في تحقيق الأذى في النفاس.
وكما إذا ثبت أن علة تحريم شرب الخمر الإسكار فينظر في تحقيق الإسكار في نبيذ آخر.

.الدليل الخامس: الاستحسان:

1- تعريفه.
2- أنواعه.
3- حجيته.
4- شبه من لا يحتجون به.

.تعريفه:

الاستحسان في اللغة: عد الشيء حسنا، وفي اصطلاح الأصوليين: هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجَّح لديه هذا العدول.
فإذا عرضت واقعة ولم يرد نص بحكمها، وللنظر فيها وجهتان مختلفان إحداهما ظاهرة تقتضي حكما والأخرى خفية تقتضي حكما آخر، وقام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة النظر الخفية، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا: الاستحسان. وكذلك إذا كان الحكم كليا، وقام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم آخر فهذا أيضا يسمى شرعا الاستحسان.

.أنواعه:

من تعريف الاستحسان شرعا يتبين أنه نوعان:
أحدهما: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل.
وثانيهما: استثناء جزئية من حكم كلي بدليل.
ومن أمثلة النوع الأول:
1- نص فقهاء الحنفية على أن الواقف إذا وقف أرضا زراعية يدل حق المسيل وحق الشرب وحق المرور في الوقف تبعا بدون ذكرها استحسانا، والقياس أنها لا تدخل إلا بالنص عليها كالبيع. ووجه الاستحسان: أن المقصود من الوقف انتفاع الموقوف عليهم، ولا يكون الانتفاع بالأرض الزراعية إلا بالشرب والمسيل والطريق، فتدخل في الوقف بدون ذكرها لأن المقصود لا يتحقق إلا بها كالإجارة.
فالقياس الظاهر إلحاق الوقف في هذا البيع، لأن كلا منهما إخراج ملك من مالكه.
والقياس الخفي: إلحاق الوقف في هذا بالإجارة لأن كلا منهما مقصود به الانتفاع، فكما يدخل المسيل والشرب والطريق في إجارة الأطيان بدون ذكرها تدخل في وقف الأطيان بدون ذكرها.
2- نص فقهاء الحنفية على أنه إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل قبض المبيع، فادعى البائع أن الثمن مائة جنيه وادعى المشتري أنه تسعون يتحالفان استحسانا، والقياس أن لا يحلف البائع، لأن البائع يدعي الزيادة وهي عشرة والمشتري ينكرها، والبينة على من أدعى، واليمين على من أنكر، فلا يمين على البائع. ووجه الاستحسان: أن البائع مدعٍ ظاهرا بالنسبة إلى الزيادة ومنكر حق المشتري في تسليم المبيع بعد دفع التسعين، والمشتري منكر ظاهرا الزيادة التي ادعاها البائع وهي العشرة ومدع حق تسلمه المبيع بعد دفع التسعين، فكل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من جهة أخرى فيتحالفان.
فالقياس الظاهر: إلحاق هذه الواقعة بكل واقعة بين مدع ومنكر، فالبينة على من ادعى واليمن على من أنكر.
والقياس الخفي: إلحاق الواقعة بكل واقعة بين متداعيين، كل واحد منهما يعتبر في آن واحد مدعيا ومنكرا فيتحالفان.
3- نص فقهاء الحنفية على أن سؤر سباع الطير كالنسر والغراب والصقر والبازي والحدأة والعقاب طاهر استحسانا نجس قياسا. وجه القياس: أنه سؤر حيوان محرم لحمه كسؤر سباع البهائم كالفهد والنمر والسبع والذئب، وحكم سؤر الحيوان تابع لحكم لحمه. ووجه الاستحسان: أن سباع الطير وإن كان محرماً لحمها إلا أن لعابها المتولد من لحمها لا يختلط بسؤرها، لأنها تشرب بمنقارها وهو عظيم طاهر، وأما سباع البهائم فتشرب بلسانها المختلط بلعابها فلهذا ينجس سؤرها.
ففي كل مثال من هذه الأمثلة، تعارض في الواقعة قياسان أحدهما جلي متبادر فهمة، والآخر خفي دقيق فهمه، وقام للمجتهد دليل رجح القياس الخفي فعدل عن القياس الجلي فهذا العدول هو الاستحسان والدليل الذي بني عليه هو وجه الاستحسان.
ومن أمثلة النوع الثاني:
نهى الشارع عن بيع المعدوم والتعاقد على المعدوم، ورخص استحسان في السلم والإجارة والمزارعة والمساقاة والاستصناع وهي كلها عقود، المعقود عليه فيها معدوم وقت التعاقد، ووجه الاستحسان حاجة الناس وتعارفهم.
ونص الفقهاء على أن الأمين يضمن بموته مجهلاً لأن التجهل نوع من التعدي، واستثني استحسانا موت الأب أو الجد أو الوصي مجهلاً. ووجه الاستحسان: أن الأب والجد والوصي لكل منهم أن ينفق على الصغير ويصر ما يحتاج إليه فلعل ما جهله كان قد صرفه في وجهه.
ونصوا على أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، واستثنى استحسانا الأجير المشترك، فإنه يضمن إلا إذا كان هلاك ما عنده بقوة قاهرة؛ ووجه الاستحسان: تأمين المستأجرين.
ونصوا على أن المحجور عليه للسفه لا تصح تبرعاته، واستثني استحسانا وقفه على نفسه مدة حياته، ووجه الاستحسان: أن وقفه على نفسه فيه تأمين عقاراته من الضياع، وهذا يتفق والغرض من الحجر عليه.
ففي كل مثال من هذه الأمثلة استثنيت جزئية من حكم كلي بدليل، وهذا هو الذي يسمى اصطلاحا الاستحسان.